"من الواجب أن نعرف مقاصِدَ أصوامنا، لئلاّ نكون كالتائهين في البحر، يتوهّمون أنهم إلى المدينة قاصدون، وهُم في مُتَّجَهٍ آخر هائمون"، بهذه الكلمات خاطب يوحنا فم الذهب الكنيسة. وفي الواقع، الصوم بدون مقاصِد هو صَومٌ من أجلِ الصوم، وصومٌ كهذا لا يُبَرّر.
وجهانِ للصوم لا يجب أن يغيبا عن الصائم؛ الإنقطاع والإنشغال. فالصومُ في وجهه الأوّل، هو انقطاعٌ عمّا يُقيت الجسد لترويض الجسد: "أقمَعُ جسدي وأستعبده لئلاّ أُرذَل أنا الذي بَشَّرت الكثيرين"(1كو927). وفي وجهه الثاني هو انشغال "بالقداسة التي لَن يُعايِنَ الربَّ أَحدٌ بِدونِها"(عب514)، وبما يُقيت الروح ويُهَذّب النفس والحواس، ويُشَرّعُ القلب على المحبّة في بُعديها الإلهي والبشري. وخارج هذا الإطار يبقى الصوم من دون هدف ويتحوّلُ إلى فارغٍ من معناه ومُحتواه ومُجرّد طقسٍ وتقاليد "لا يُمكنها أن تَجعَلَ مَن يعيشُها كاملاً لِجهة الضمير"(عب99).
أخذ الله على شعبه مأخذاً، قال لأشعيا النبي: "إرفع صوتك كالبوق، أي تكلّم بصوتٍ عالٍ جدّاً، بصوتٍ يستطيع أن يخترق آذان شعبي المُقفلة، وقلب شعبي المتحجّر، وأخبر شعبي بمعصيته"(أش581). ومعصية شعبِ الله هي أنّه يصوم ويُميت نفسه ويُصلّي، ولكنّه لا يتخلّى عن الشرّ الذي في قلبه، لذلِك لا تُستجاب صلاته، فيصرًخ إلى الله قائلاً: "ما بالُنا صُمنا وأنتَ لم ترَ، وعذّبنا أنفُسَنا وأنتَ لَم تعلَم"(أش583).
يُجيب الله ويقول لشعبه، لم أرَ ولم أسمع لأنّكم: "في يوم صومِكُم… تُعاملون بقسوةٍ جميعَ عُمّالكم، وتنتهكون "العدل والرحمة والأمانة"(متى2323)، وإنّكم للخصومة والمُشاجرة تصومون، فيبقى قلبكم مثوىً للحقد والكراهية، ولِتَضرِبوا بِلَكمَة الشرّ"(أش 583-4)، في حين أنّ الصوم الذي يُرضيني يقول الله: "هو أن تكسِرَ خُبزَكَ وأن تُدخِلَ البائسين المطرودين بيتَكَ، وإذا رأيتَ العُريانَ أن تكسوَه وأن لا تتوارى عن لحمِكَ"(أش587). فهل صنعتَ كلَّ هذا ولَم أسمَعكَ؟ وكيف أسمَعُ هذا الشعب وآثامُ هذا الشعب أمامي وخطاياه تمنعه من البرّ، ويداه تلطّخت بالدّماء وأصابعه بالإثم، وشفاهَه تنطِق بالكذب والخبث واللعنة والتجديف، وقلبه فاسد.
مَن فقدَ نقاوةَ القلب، فصومُهُ غيرُ مقبول، قال أفرهات الحكيم الفارسي. وهو ما نُصليّه في قداس الصوم قائلين: رَبُّ السماء، يُعلي مُقامَ، مَن بالنقاء، يقضي الصيامَ. فالصوم الذي يُرضي الله هو الصوم الذي يتطابق فيه سلوك الإنسان مع إرادة الله، و"حينئذٍ يبزُغُ كالفجرِ نورَكَ... ويسير برّكَ أمامَكَ… وحينئذٍ تدعو فيستجيب الربّ، وتستغيث فيقول لكَ الربّ: "هاأنذا"(أش588-9)، أراكَ وأسمعُكَ، وأقبَلُ صومَكَ.
إذهب وقُل هذا لشعبي، لئلاّ يَظُنُّ بأنّه صائمٌ وهو ليس بِصائم مع أنّه صائم.